المفتي والقاضي في الدرر النجفية

المفتي والقاضي في الدرر النجفية
قال الشيخ يوسف البحراني في الدرر النجفية بعد ذكر شروط المفتي والقاضي وتأييد الحكم المجمع عليه من اشتراط الفقاهة والاجتهاد فيهما:
تتميم نفعه عميم
في‌ بيان‌ ‌ما يستعلم‌ ‌به‌ أهلية المجتهد
المرجع‌ ‌في‌ استعلام‌ ‌من‌ ‌له‌ أهلية ‌الحكم‌ والفتوى ‌‌-‌ و‌هو‌ ‌من‌ اتّصف‌ ‌بما‌ قدمنا ‌من‌ العلوم‌ والملكة ‌مع‌ تسربله‌ بسربال‌ الورع‌ والتقوى -‌ إمّا إلى المعاشرة التامة ‌من‌ مثله‌ ‌في‌ العلم‌ والعمل‌، ‌أو‌ شهادة عدلين‌ بذلك‌، ‌أو‌ عرض‌ فتاويه‌ ‌مع‌ فتاوى ‌من‌ تكون‌ ‌له‌ تلك‌ القوة القدسية والملكة العلمية، ‌أو‌ عمل‌ أهل‌ العلم‌ بأقواله‌ وفتواه‌.
و‌لا‌ فرق‌ ‌في‌ العمل‌ بقوله‌ ‌بين‌ كونه‌ حيا ‌أو‌ ميتا.
و‌ما ذكره‌ ‌بعض‌ الأصحاب‌ ‌من‌ الاكتفاء برؤيته‌ متصدّرا، ناصبا نفسه‌ للفتوي‌ و‌الحكم‌، وإقبال‌ الناس‌ ‌عليه‌، ‌فلا‌ يخفى ‌ما ‌فيه‌ ‌من‌ عظم‌ المحنة والبلوى، سيما ‌في‌ مثل‌ ‌هذا‌ الزمان‌ ‌الذي‌ عزّ ‌فيه‌ الورع‌ والتقوي‌.
‌ قال‌ ‌بعض‌ فضلاء متأخرى المتأخرين ‌‌-‌ و‌نعم‌ ‌ما ‌قال‌‌ -‌ ‌بعد‌ ذكر ‌ما يدخل‌ ‌في‌ ‌هذا‌ المجال‌ ‌ما صورته‌: (و‌لا‌ عبرة بإجماع‌ العوام‌ ‌عليه‌، و‌لا‌ بسؤالهم‌ ‌منه‌؛ ‌فإن‌ مدارهم‌ الاعتماد على الأمور الظاهرية؛ ‌من‌ ذلاقة اللسان‌، وعظم‌ الجثمان‌، وإقبال السلطان‌، وكونه‌ ‌إبن‌ فلان‌، ‌أو‌ أخا فلان‌، و‌غير‌ ‌ذلك‌ ‌من‌ الأسباب‌ والاعتبارات‌ الدنيوية، وعسى ‌لا‌ يعتقد عامي‌ ‌في‌ عالم‌ ورع‌ ساكت‌ ‌غير‌ متبحر بالفتاوي‌ كونه‌ عالما أصلا، ويجزم‌ بكون‌ رجل‌ جاهل‌ مدع‌ للعلم‌ مفت‌ بكل‌ ‌ما يسأل‌ ‌عنه‌ ‌أنه‌ أعلم‌ أهل‌ زمانه‌، خصوصا ‌إن‌ انضم‌ّ ‌إليه‌ رجحان‌ ‌من‌ الجهات‌ الدنيوية. و‌ذلك‌ ظاهر ‌مما‌ يشاهد ‌في‌ كل‌ّ الأزمنة وجميع‌ الأمكنة) انتهى‌.
أقول‌: لقد تقاعدت‌ الهمم‌ ‌في‌ ‌هذا‌ الزمان‌ ‌عن‌ نصرة الدين‌ المبين‌، والسعي‌ ‌في‌ إحياء شريعة سيد المرسلين‌ صلى اللّه‌ ‌عليه‌ وآله‌، وتحصيل‌ الأحكام‌ على الوجه‌ ‌الذي‌ ذكرناه‌ ‌في‌ المقام‌، ‌أو‌ ذكره‌ ‌من‌ تقدمنا ‌من‌ علمائنا الأعلام‌، وقنعوا ‌بما‌ قنعت‌ ‌به‌ منهم‌ الجهّال‌ ‌في‌ ‌ذلك‌ المجال‌، فتصدّروا لهذا المنصب‌ النبوي‌ّ وأكثروا ‌فيه‌ ‌من‌ الفتيا ‌في‌ الأحكام‌، وخبطوا خبط عشواء ‌في‌ موارد الحلال‌ والحرام‌، ‌من‌ ‌غير‌ معرفة لهم‌ ‌في‌ ‌ذلك‌ بدليل‌ و‌لا‌ وقوف‌ على نهج‌ السبيل‌، فتصدّر للحكومة ‌بين‌ الناس‌ ‌من‌ ‌لم‌ يبن‌ على أصل‌ و‌لا‌ أساس‌ (أَفَأَمِن‌َ الذين‌َ مَكَرُوا السَّيِّئات‌ِ أَن‌ يَخسِف‌َ اللّه‌ُ بِهِم‌ُ الأَرض‌َ أَو يَأتِيَهُم‌ُ العَذاب‌ُ مِن‌ حَيث‌ُ لا يَشعُرُون‌َ).
فصاروا ‌إذا‌ وردت‌ على أحدهم‌ القضية هيّأ لها حشوا ‌من‌ المقال‌، وأردف‌ الجواب‌ عاجلا بالسؤال‌، ‌من‌ ‌غير‌ معرفة بصواب‌ ‌أو‌ ضلال‌.
والمتورع‌ الفاضل‌ المجتهد ‌بين‌ العباد ‌إذا‌ وردت‌ ‌عليه‌ المسألة هيأ لها (شرح‌ اللمعة) و(المسالك‌)، و‌بعض‌ شروح‌ (الإرشاد)، وأصدر الجواب‌ ‌منها‌ ‌من‌ ‌غير‌ علم‌ ‌له‌ بابتنائه‌ على صحة ‌أو‌ فساد (آللّه‌ُ أَذِن‌َ لَكُم‌ أَم‌ على اللّه‌ِ تَفتَرُون)‌َ.
‌هذا‌ ‌مع‌ ‌أن‌ أصحاب‌ تلك‌ الكتب‌ متفقون‌ على المنع‌ ‌من‌ تقليد الأموات‌، ‌كما‌ صرّحوا ‌به‌ ‌في‌ كتبهم‌ الأصولية ‌من‌ مختصرات‌ ومطوّلات‌.
على ‌أنه‌ ‌أيضا‌ ‌لا‌ خلاف‌ ‌بين‌ العلماء الأعلام‌ ‌في‌ ‌أنه‌ ‌لا‌ ‌يجوز‌ بناء القضاء والفتوى ‌في‌ الأحكام‌ على التقليد لحي‌ّ ‌كان‌ ‌أو‌ ميت‌ ‌كما‌ عرفت‌ آنفا قبيل‌ ‌هذا‌ الكلام‌، ‌بل‌ لابدّ ‌من‌ أخذ ‌ذلك‌ ‌من‌ الدليل‌ المقرّر ‌عن‌ أهل‌ الذكر عليهم‌ السّلام‌، وبذلك‌ استفاضت‌ الآيات‌ القرآنية والأخبار المعصومية (قُل‌ إِنَّما حَرَّم‌َ رَبِّي‌َ الفَواحِش‌َ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَن‌َ والإِثم‌َ والبَغي‌َ بِغَيرِ الحَق‌ِّ وأَن‌ تُشرِكُوا بِاللّه‌ِ ما لَم‌ يُنَزِّل‌ بِه‌ِ سُلطاناً وأَن‌ تَقُولُوا على اللّه‌ِ ما لا تَعلَمُون‌َ) (ألَم‌ يُؤخَذ عَلَيهِم‌ مِيثاق‌ُ الكِتاب‌ِ أَن‌ لا يَقُولُوا على اللّه‌ِ إلا الحَق) (ومَن‌ لَم‌ يَحكُم‌ بِما أَنزَل‌َ اللّه‌ُ فَأُولئِك‌َ هُم‌ُ الفاسِقُون‌َ) (ومَن‌ لَم‌ يَحكُم‌ بِما أَنزَل‌َ اللّه‌ُ فَأُولئِك‌َ هُم‌ُ الظّالِمُون‌َ) (ومَن‌ لَم‌ يَحكُم‌ بِما أَنزَل‌َ اللّه‌ُ فَأُولئِك‌َ هُم‌ُ الكافِرُون‌َ) (وَلا تَقف‌ُ ما لَيس‌َ لَك‌َ بِه‌ِ عِلم‌ٌ). ‌إلى‌ ‌غير‌ ‌ذلك‌ ‌من‌ الآيات‌ البينات‌.
و‌قد‌ تقدم‌ لك‌ ‌في‌ ‌ذلك‌ شطر ‌من‌ الروايات‌، و‌لا‌ تجد ‌ذلك‌ ‌في‌ مكان‌ أكثر ‌منه‌ ‌في‌ بلاد العجم‌ ‌الّتي‌ ‌قد‌ آل‌ أمرها بسبب‌ ‌ذلك‌ إلى الاضمحلال‌ والعدم‌.
و‌من‌ أعظم‌ البلاء الظاهر ‌الذي‌ ‌قد‌ أوجب‌ لها الانعدام‌ بناء دينهم‌ وشريعتهم‌ على ‌من‌ نصبه‌ لهم‌ حكام‌ الجور ‌من‌ قاض‌ وشيخ‌ إسلام‌، وجعل‌ بيده‌ أزمة الأحكام‌ ‌في‌ الحلال‌ والحرام‌، جريا على طريقة العامة ‌في‌ هذا‌ المقام‌، ‌مع‌ ‌ما شاع‌ وذاع‌ وملأ الاصقاع‌ والأسماع‌ ‌من‌ تكالب‌ جلهم‌ على أخذ الرشا على الأحكام‌، مضافا إلى ‌ما هم‌ ‌عليه‌ ‌من‌ الجهل‌ بشريعة الملك‌ العلام‌.
والحامل‌ لهم‌ على ‌ذلك‌ ‌هو‌ حب‌ّ الرئاسة ‌الذي‌ ‌هو‌ رأس‌ كل‌ّ خطيئة، ومفتاح‌ كل‌ّ بلية والطمع‌ ‌في‌ زخارف‌ ‌هذه‌ الدنيا الدنية.
و‌قد‌ أصبحوا تضج‌ منهم‌ الأموال‌ والفروج‌ والدماء، وتشكو منهم‌ الشريعة النبوية إلى بارئ‌ الأرض‌ والسماء.
و‌مع‌ ‌هذا‌ ترى الجهّال‌ عاكفين‌ عليهم‌ عكوفا، وواقفين‌ حولهم‌ و‌بين‌ أيديهم‌ صفوفا، ‌مع‌ ‌أنه‌ ‌لو‌ عزل‌ أحدهم‌ ‌من‌ ‌هذا‌ المنصب‌ المشؤوم‌، ‌بل‌ ‌قبل‌ نصبه‌ ‌فيه‌ ‌كما‌ ‌هو‌ ظاهر معلوم‌، ‌لا‌ ترى ‌له‌ ذكرا ‌بين‌ الأنام‌، و‌لا‌ ترى ‌من‌ يقلّده‌ ‌في‌ أظهر الظواهر ‌من‌ الأحكام‌، فيا ويلهم‌ كأنهم‌ ‌لم‌ تقرع‌ أسماعهم‌ تلك‌ التقريعات‌ القرآنية والإنذارات‌ المعصومية، و‌لم‌ تسع‌ أفهامهم‌ تلك‌ التحذيرات‌ القاصمة الظهور، بلى‌ إنها لا تَعمَى‌ الأَبصارُ، ولكِن‌ تَعمَى‌ القُلُوب‌ُ الَّتِي‌ فِي‌ الصدور.
و‌قد‌ ‌روى‌ ثقة الإسلام‌ ‌في‌ (الكافي‌) بسنده‌ ‌عن‌ داود ‌بن‌ فرقد ‌قال‌: ‌قال‌ أبو ‌عبد‌ اللّه‌ ‌عليه‌ السّلام‌: (إن‌ ‌أبي‌ ‌كان‌ يقول‌: ‌إن‌ اللّه‌ ‌لا‌ يقبض‌ العلم‌ ‌بعد‌ ‌ما يهبطه‌، و‌لكن‌ يموت‌ العالم‌ فيليهم‌ الجفاة، فيضلون‌ ويضلّون‌).
و‌روى العامة ‌في‌ [صحاحهم‌] ‌عن‌ النبي‌ صلى اللّه‌ ‌عليه‌ وآله‌ ‌أنه‌ ‌قال‌: (إن‌ اللّه‌ ‌لا‌ يقبض‌ العلم‌ انتزاعا، ‌لكن‌ يقبض‌ العلماء، حتى ‌إذا‌ ‌لم‌ يبق‌ علم‌ اتخذ الناس‌ رؤساء جهّالا، وأفتوا الناس‌ بغير علم فضلوا وأضلوا).
المصدر:
الدرة ١٢من كتاب: الدرر النجفية
الشيخ يوسف العصفور البحراني (قدس سره)

تواصل معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *