هل‌ الواجب‌ على العالم‌ تعليم‌ الجاهل‌ ابتداء ‌من‌ ‌غير‌ سؤال

⛔️ من أبحاث ‏المحدث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره):

❇️ هل‌ الواجب‌ على العالم‌ تعليم‌ الجاهل‌ ابتداء ‌من‌ ‌غير‌ سؤال‌، ‌أو‌ ‌بعد‌ السؤال‌، ‌أو‌ الواجب‌ على الجاهل‌ السؤال‌ ‌من‌ العالم‌، أولا؛ أعم‌ ‌من‌ ‌أن‌ ‌يكون‌ عمّا يعلمه‌ ‌في‌ الجملة ‌كما‌ ‌في‌ الجاهل‌؛ بمعنى  المتصور للحكم‌ المتردّد ‌فيه‌، ‌أو‌ عما يجهله‌ مطلقا على وجوب‌ التعلّم‌ ‌عليه‌، ‌لا‌ بالمعنى  المتقدم‌ ‌في‌ قسيمه‌؛ ‌لأن‌ المفروض‌ كونه‌ بمعنى  الذاهل‌ الغافل‌ ‌عن‌ ‌الحكم‌؟ فكيف‌ يتيسّر ‌له‌ السؤال‌ ‌عنه‌؛ إذ توجّه‌ النفس‌ نحو المجهول‌ المطلق‌ ممتنع‌ عقلا، فيرجع‌ الفرض‌ ‌فيه‌ إلى وجوب‌ التعلّم‌ ‌عليه‌ مطلقا، ‌إن‌ علم‌ ‌ذلك‌؟



‌🔵 لم‌ أقف‌ لأحد ‌من‌ علمائنا الأعلام‌ على ‌ما يتضمّن‌ تنقيح‌ المقام‌، إلا ‌إنا‌ نتكلّم‌ ‌في‌ ‌ذلك‌ ‌بما‌ أدّي‌ ‌إليه‌ الفهم القاصر ‌من‌ كلام‌ أهل‌ الذكر (عليهم‌ السّلام‌) مستعينين‌ بتوفيق‌ الملك‌ العلام‌، فنقول‌: ‌

ما ذكرناه‌ ‌من‌ الترديد ينحل‌ّ إلى مقامات‌ أربعة:

1️⃣ الأوّل‌: ‌في‌ وجوب‌ التعليم‌ على العالم‌ ابتداء.

ومقتضى‌ كلام‌ المحدّث‌ السيد نعمة اللّه‌ (قدّس‌ سرّه)‌ ‌كما‌ عرفت‌ ‌ذلك‌، و‌به‌ صرّح‌ ‌أيضا‌ شيخنا ‌الشيخ‌ العلّامة أبو ‌الحسن‌ ‌الشيخ‌ سليمان‌ ‌بن‌ ‌عبد‌ اللّه‌ البحراني‌ (قدّس‌ سرّه)‌ ‌في‌ ‌بعض‌ أجوبته‌، ‌حيث‌ سئل‌:

هل‌ ‌يجب‌ على العالم‌ تعليم‌ الجاهل‌ ابتداء، ‌أو‌ ‌أنه‌ ‌لا‌ ‌يجب‌ إلا بشرط السؤال‌؟

فأجاب‌ (قدّس‌ سرّه)‌: (‌إن‌ ‌الذي‌ يظهر ‌من‌ الآيات‌ والأخبار وجوب‌ التعليم‌ كفاية، إمّا للسائل‌ المسترشد، ‌أو‌ للجاهل‌ المعلوم‌ جهله للمرشد، أمّا ‌لو‌ ‌لم‌ يعلم‌ جهله‌ ‌به‌ ‌فلا‌ تكليف‌، لأصالة البراءة). انتهى‌.

ولعلّه‌ (قدّس‌ سرّه)‌ أشار بالآيات‌ إلى مثل‌ ‌قوله‌ ‌تعالى:‌ (وإِذ أَخَذَ اللّه‌ُ مِيثاق‌َ الذين‌َ أُوتُوا الكِتاب‌َ لَتُبَيِّنُنَّه‌ُ لِلنّاس)‌ِ.

وقوله‌ سبحانه:‌ (إِن‌َّ الذين‌َ يَكتُمُون‌َ ما أَنزَلنا مِن‌َ البَيِّنات‌ِ والهُدي‌ مِن‌ بَعدِ ما بَيَّنّاه‌ُ لِلنّاس)‌ِ الآية.

قال‌ حجّة الإسلام‌ الطبرسي‌ ‌في‌ كتاب‌ مجمع‌ البيان‌ في‌ تفسير الآية الأولى‌: (دلّت‌ الآية على وجوب‌ إظهار الحق‌ّ وتحريم‌ كتمانه‌، فيدخل‌ ‌فيه‌ بيان‌ الدين‌، والأحكام‌، والفتاوى‌، والشهادات‌، و‌غير‌ ‌ذلك‌ ‌من‌ الأمور ‌الّتي‌ يختص‌ّ ‌بها‌ العلماء).

ثم‌ نقل‌ ‌عن‌ الثعلبي‌ ‌في‌ تفسيره‌ رواية ‌عن‌ على ‌(عليه‌ السّلام)‌ ‌قال‌: «‌ما أخذ اللّه‌ على أهل‌ الجهل‌ ‌أن‌ يتعلّموا، حتى أخذ على أهل‌ العلم‌ ‌أن‌ يعلّموا».

و‌قال‌ ‌في‌ تفسير الآية الثانية: (و‌في‌ ‌هذه‌ الآية دلالة على ‌أن‌ كتمان‌ الحق‌ ‌مع‌ الحاجة إلى إظهاره‌ ‌من‌ أعظم‌ الكبائر، وأن‌ّ ‌من‌ كتم‌ شيئا ‌من‌ علوم‌ الدين‌ وفعل‌ مثل‌ فعلهم‌، فهو مثلهم‌ ‌في‌ الجرم‌، ويلزمه‌ ‌كما‌ يلزمهم‌ ‌من‌ الوعيد) انتهى‌.

    أقول‌: ويدل‌ّ على ‌ذلك‌ ‌من‌ الأخبار ‌ما رواه‌ ‌في‌ الكافي‌ عن‌ ‌أبي‌ ‌عبد‌ اللّه‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌ ‌قال‌: «قرأت‌ ‌في‌ كتاب‌ على ‌(عليه‌ السّلام)‌، ‌إن‌ اللّه‌ ‌لم‌ يأخذ على الجهّال‌ عهدا بطلب‌ العلم‌، حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل‌ العلم‌ للجهّال‌».

و‌ما تقدّم‌ ‌من‌ كلام‌ الأمير ‌(عليه‌ السّلام)‌، المنقول‌ ‌في‌ آخر كلام‌ المحدّث‌ السيّد نعمة اللّه‌ (رحمه‌ اللّه)‌ نقله‌ السيد الرضي‌ (رضي‌ اللّه‌ ‌عنه)‌ ‌في‌ كتاب‌ نهج‌ البلاغة، و‌ما ورد ‌من‌ الأخبار المتضمنة للنهي‌ ‌عن‌ كتمان‌ العلم‌، مثل‌ ‌ما رواه‌ ‌الشيخ‌ (قدّس‌ سرّه)‌ ‌في‌ الأمالي‌ عنه‌ (صلى اللّه‌ ‌عليه‌ وآله)‌، ‌قال‌: «أيّما رجل‌ آتاه‌ اللّه‌ علما فكتمه‌ و‌هو‌ يعلمه‌، لقي‌ اللّه‌ عزّ وجل‌ّ يوم‌ القيامة ملجما بلجام‌ ‌من‌ نار».

لكن‌ ينبغي‌ تقييد ‌ذلك‌ ‌بما‌ ‌إذا‌ ‌لم‌ يكن‌ ثمّة مانع‌ شرعي‌ّ ‌من‌ تقيّة ونحوها، ‌لما‌ ‌روي‌ ‌في‌ الاحتجاج‌ عن‌ ‌عبد‌اللّه‌ ‌بن‌ سليمان‌ ‌قال‌: كنت‌ ‌عند‌ ‌أبي‌ ‌جعفر‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌، ‌فقال‌ ‌له‌ رجل من‌ أهل‌ البصرة يقال‌ ‌له‌ عثمان‌ الأعمى‌: ‌إن‌ ‌الحسن‌ البصري‌ّ يزعم‌ ‌أن‌ الذين‌ يكتمون‌ العلم‌ تؤذي‌ ريح‌ بطونهم‌ ‌من‌ يدخل‌ النار. ‌فقال‌ أبو ‌جعفر‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌: «فهلك‌ إذن‌ مؤمن‌ آل‌ فرعون‌ واللّه‌ مدحه‌ بذلك‌! ومازال‌ العلم‌ مكتوما مذ بعث‌ اللّه‌ رسوله‌ [نوحا] فليذهب‌ ‌الحسن‌ يمينا وشمالا، فواللّه‌، ‌ما يوجد العلم‌ إلا هاهنا».

وروي‌ ‌في‌ تفسير الإمام‌ العسكري‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌ ‌عن‌ أمير المؤمنين‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌، ‌قال‌: «سمعت‌ رسول‌ اللّه‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌ يقول‌: ‌من‌ سئل‌ ‌عن‌ علم‌ فكتمه‌ ‌حيث‌ ‌يجب‌ إظهاره‌ وتزول‌ ‌عنه‌ التقية، جاء يوم‌ القيامة ملجما بلجام‌ ‌من‌ نار».

‌هذا‌ غاية ‌ما يمكن‌ الاستدلال‌ ‌به‌ ‌في‌ المقام‌ إلا ‌إن‌ احتمال‌ التخصيص‌ بالسؤال‌ قائم‌ ‌في‌ الجميع‌ ‌كما‌ يدل‌ّ ‌عليه‌ الخبر الأخير، ‌بل‌ ربما دلّت‌ على ‌ذلك‌ الأخبار المتقدّمة الدالّة على وجوب‌ طلب‌ العلم‌ على المكلف‌ والسؤال‌، و‌لا‌ سيما قول‌ الصادق‌ ‌(عليه‌ السّلام)‌: «‌لا‌ يسع‌ الناس‌ حتى يسألوا ويتفقهوا» أو‌ ‌قوله‌: «لوددت‌ ‌أن‌ أصحابي‌ ضربت‌ رؤوسهم‌ بالسياط، حتى يتفقّهوا».

وأمثال‌ ‌ذلك‌، فإنه‌ يدل‌ّ بأصرح‌ دلالة على وجوب‌ السؤال‌ والتعلّم‌ عليهم‌ ابتداء، و‌لو‌ ‌كان‌ الواجب‌ على العالم‌ التعليم‌ ابتداء، لوسع‌ الجهّال‌ ترك‌ السؤال‌ حتى يأتيه‌ العالم‌ بعلمه‌، والأخبار بخلافه‌. فالأظهر حينئذ ‌هو‌ تخصيص‌ الأخبار المتقدّمة بهذه‌ الأخبار إلا ‌أن‌ يدّعي‌ دخول‌ تلك‌ ‌في‌ باب‌ الأمر بالمعروف‌ والنهي‌ ‌عن‌ المنكر، والظاهر بعده‌.

‌2️⃣ الثاني‌: وجوب‌ التعليم‌ ‌بعد‌ السؤال‌. والظاهر وجوبه‌ ‌لما‌ ذكرنا ‌من‌ الأدلّة، إلا ‌مع‌ العذر المانع‌ ‌من‌ ‌ذلك‌ ‌كما‌ عرفت‌.

ويدل‌ّ ‌عليه‌ ‌أيضا‌ ‌ما ورد عنهم‌ (عليهم‌ السّلام)‌ ‌في‌ تفسير ‌قوله‌ تعالى: فَسئَلُوا أَهل‌َ الذِّكرِ ‌من‌ الأخبار المتعددة، وقولهم‌: «‌على‌ شيعتنا ‌ما ‌ليس‌ علينا، أمرهم‌ اللّه‌ ‌أن‌ يسألونا و‌ليس‌ علينا الجواب‌؛ ‌إن‌ شئنا أجبنا، و‌إن‌ شئنا أمسكنا»، ‌فإن‌ الظاهر ‌أن‌ إمساكهم‌، إنّما ‌هو‌ ‌في‌ مقام‌ العذر ‌من‌ تقيّة ونحوها.

3️⃣ الثالث‌: وجوب‌ السؤال‌ على الجاهل‌.

و‌لا‌ ريب‌ ‌في‌ وجوبه‌ على الجاهل‌ بالمعنى  ‌الأوّل‌ للأخبار المتقدّمة ‌في‌ أدلّة القول‌ المشهور آنفا، و‌عليه‌ ‌أيضا‌ تحمل‌ الآيات‌ كقوله‌ تعالى: فَاسألُوا أَهل‌َ الذِّكرِ، ونحوها.

4️⃣ الرابع‌: وجوب‌ التعلّم‌ على الجاهل‌ المطلق‌.

و‌لا‌ ريب‌ ‌في‌ وجوبه‌ على الجاهل‌ متى‌ علم‌ بالتكليف، ‌ للأخبار المتكاثرة الدالّة على وجوب‌ طلب‌ العلم‌ والتفقّه‌، و‌أنه‌ فرض‌ على كل‌ّ مسلم‌، و‌أنه‌ يأثم‌ بالإخلال‌ بذلك‌، ولكن‌ ‌لا‌ يستلزم‌ ‌ذلك‌ بطلان‌ ‌ما يأتي‌ ‌به‌ و‌لو‌ جهل‌ ‌الحكم‌ ‌في‌ ‌بعض‌ الجزئيّات‌ على الوجه‌ الذي‌ قدّمناه‌ والتفصيل‌ الذي‌ حقّقناه‌.

✅ وينبغي‌ ‌أن‌ يعلم‌ ‌أن‌ وجوب‌ تحصيل‌ العلم‌ ‌عليه‌ عينا، إنّما ‌هو‌ فيما يتعلّق‌ ‌به‌ تكليفه‌، فعلى‌ ‌هذا‌ يشترك‌ جميع‌ المكلّفين‌ ‌في‌ وجوب‌ معرفة المعارف‌ الدينيّة والعقائد الحقّة اليقينيّة، ومعرفة أحكام‌ ‌الصلاة‌ والصوم‌، والوضوء والغسل‌، و‌ما يبطلها ويصححها، والطهارة والنجاسة، والحلال‌ والحرام‌، ونحو ‌ذلك‌ ممّا ‌لا‌ ينفك‌ّ ‌عنه‌ المكلّف‌ غالبا. وينفرد ‌من‌ استطاع‌ الحج‌ّ بوجوب‌ معرفة أحكامه‌، و‌من‌ ملك‌ أحد النصب‌ الزكوية، بوجوب‌ معرفة أحكامها.

وعلى ‌هذا:‌ كل‌ّ ‌من‌ عمل‌ عملا وجب‌ ‌عليه‌ معرفة أحكام‌ ‌ذلك‌ العمل‌، و‌يجب‌ تحصيل‌ العلم‌ كفاية على كافة المكلفين‌، ‌كما‌ حقّق‌ ‌في‌ محله‌. واللّه‌ العالم‌.

المصدر:

من الدرة 2 من كتاب: "الدرر النجفية" للمحدث الشيخ يوسف البحراني ‏(قدس سره).

تواصل معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *