التوفيق بين إقدام الائمة (ع) على الموت وبين حرمة الإقدام على التهلكة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخنا الشارقي العزيز ..
⛔️ السؤال: وردت عدة روايات دلت على رضا الأئمَّة المعصومين (عليهم السّلام) بالموت وإقدامهم عليه سواء بالسيف أو بالسم .. مع علمنا بحرمة الإلقاء بالنفس في التهلكة كما هو صريح قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). البقرة | الآية: ١٩٥
كيف نوفق بين هذه الروايات وبين الآية الشريفة؟
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قد تم توجيه هذا السؤال إلى صاحب الحدائق الناضرة فقيه أهل البيت (عليهم السلام) المحدّث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره) فكتب في الجواب على هذا السؤال ما يلي:
🔵 الجواب: الشيخ جعفر الشارقي:
((قد كثر السؤال من جملة من الأخلاء الأعلام والأجلاء الكرام عن الوجه في رضا الأئمَّة (عليهم الصلاة والسلام) وإعطائهم بأيديهم لما أوقعه بهم مخالفوهم من القتل بالسيف أو السم، حيث إنهم عالمون بذلك لما استفاضت به الأخبار من أن الإمام عليه السّلام يعلم انقضاء أجله، وأنه هل يموت حتف أنفه أو بالقتل أو بالسم.
وحينئذ، فقبوله ذلك وعدم تحرزه من الامتناع، يستلزم الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الإلقاء باليد إلى التهلكة محرم نصا؛ قرآنا وسنّة.
وقد أكثر المسؤولون من الأجوبة في هذا الباب، بل ربما أطنبوا فيه أي إطناب، بوجوه لا يخلو أكثرها من الإيراد، ولا تنطبق على المقصود والمراد.
وحيث إن بعض الإخوان العظام، والخلان الكرام سألني عن ذلك في هذه الأيّام، رأيت أن أكتب في المقام ما استفدته من أخبارهم (عليهم الصلاة والسلام) فأقول وبه سبحانه الثقة لإدراك المأمول، وبلوغ كل مسؤول:
يجب أن يعلم:
أولا: أن التحليل والتحريم أحكام توقيفية من الشارع عزّ شأنه، فما وافق أمره ورضاه فهو حلال، وما خالفهما [فهو] حرام، وليس للعقل – فضلا عن الوهم – مسرح في ذلك المقام.
وثانيا: أن مجرد الإلقاء باليد إلى التهلكة على إطلاقه غير محرم وإن أشعر ظاهر الآية بذلك، إلا إنه يجب تقييده وتخصيصه بما قام الدليل على جوازه، وذلك فإن الجهاد متضمّن للإلقاء باليد إلى التهلكة مع أنه واجب نصا وإجماعا، وكذلك الدفاع عن النفس والأهل والمال. ومثله أيضا وجوب الإعطاء باليد إلى القصاص وإقامة الحد عليه متى استوجبه.
وثالثا: أنهم (صلوات اللّه عليهم) في جميع أحوالهم وما يتعلق بمبدئهم وحالهم يجرون على ما اختارته لهم الأقدار السبحانية ورضيته لهم الأقضية الربانية، فكل ما علموا أنه مختار لهم تعالى بالنسبة إليهم وإن اشتمل على غاية الضرر والبؤس ترشفوه ولو ببذل المهج والنفوس.
إذا تقررت هذه المقدمات الثلاث، فنقول:
إن رضاهم (صلوات اللّه عليهم) بما ينزل بهم من القتل بالسيف والسم، وكذا ما يقع بهم من الهوان على أيدي أعدائهم والظلم مع كونهم عالمين به وقادرين على دفعه، إنّما هو لما علموه من كونه مرضيا له سبحانه وتعالى، ومختارا له بالنسبة إليهم، وموجبا للقرب من حضرة قدسه والجلوس على بساط أنسه.
وحينئذ، فلا يكون من قبيل الإلقاء باليد الذي حرمته الآية؛ إذ هو ما اقترن بالنهي من الشارع نهي تحريم، وهذا مما علم رضاه به واختياره له فهو على النقيض من ذلك، ألا ترى أنه ربما نزل بهم شيء من تلك المحذورات قبل الوقت المعدود والأجل المحدود، فلا يصل إليهم منه شيء من الضرر، ولا يتعقبه المحذور والخطر؟ فربما امتنعوا منه ظاهرا، وربما احتجبوا منه باطنا، وربما دعوا اللّه سبحانه في رفعه فيرفعه عنهم؛ وذلك لما علموا أنه غير مراد له سبحانه في حقهم ولا مقدر لهم.
وبالجملة، فإنهم (صلوات اللّه عليهم) يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار، وما اختاره لهم القادر المختار.
ولا بأس بإيراد بعض الأخبار الواردة في هذا المضمار، ليندفع بها الاستبعاد، ويثبت بها المطلوب والمراد:
1- فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام (عطر اللّه مرقده) في الكافي بسنده عن الحسن بن الجهم، قال: قلت للرضا (عليه السّلام): إن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد عرف قاتله، والليلة الّتي يقتل فيها، والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لما سمع صياح الإوز: «صوائح تتبعها نوائح» وقول أم كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار، وأمرت غيرك يصلي بالناس. فأبي عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عرف (عليه السّلام) أن إبن ملجم (لعنه اللّه) قاتله بالسيف، وكان هذا مما لم يجز تعرضه، فقال (عليه السّلام): «ذلك كان، ولكنه خيّر تلك الليلة لتمضي مقادير اللّه تعالى».
وحاصل سؤال السائل المذكور: أنه مع علمه (عليه السّلام) بوقوع القتل، فلا يجوز له أن يعرض نفسه له؛ لأنه من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي حرمه الشارع، فأجاب (عليه السّلام) بما هذا تفصيله وبيانه من أنه وإن كان الأمر كما ذكرت من علمه (عليه السّلام) بذلك، لكنه ليس من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة، الذي هو محرّم؛ لأنه (عليه السّلام) خيّر في تلك الليلة بين لقاء اللّه تعالى على تلك الحال أو البقاء في الدنيا، فاختار (عليه السّلام) اللقاء على الوجه المذكور؛ حيث علم أنه مختار ومرضيّ له عند ذي الجلال، كما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام) لما ضربه اللعين إبن ملجم – ملجّم بلجام جهنّم، عليه ما يستحقه –: «فزت وربّ الكعبة».
وهذا معنى قوله: «لتمضي مقادير اللّه تعالى»، يعني أنه سبحانه قدّر وقضى في الأزل أنه (عليه السّلام) لا يخرج من الدنيا إلا على هذه الحال باختياره ورضاه بها.
2- ومن ذلك ما رواه في الكتاب المذكور عن عبد الملك بن أعين عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «أنزل اللّه تعالى النصر على الحسين (عليه السّلام) حتى كان ما بين السماء والأرض، ثم خير النصر أو لقاء اللّه، فاختار لقاء اللّه». والتقريب ما تقدم.
3- ومن ذلك ما رواه أيضا في الكتاب المذكور عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث قال فيه: فقال له حمران: جعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام على بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السّلام)، وخروجهم وقيامهم بدين اللّه، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم، حتى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر (عليه السّلام): «يا حمران، إن اللّه تعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثم أجراه. فبتقدّم علمٍ إليهم من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قام على والحسن والحسين، وبعلم صمت من صمت منا. ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم [ما نزل] من أمر اللّه تعالى وإظهار الطواغيت عليهم سألوا اللّه تعالى أن يدفع ذلك عنهم، وألحّوا عليه في إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذن لأجابهم ودفع ذلك عنهم.
ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدّد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه، ولا لعقوبة معصية خالفوا اللّه فيها، ولكن لمنازل وكرامة من اللّه أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم».
أقول: وهو صريح في المطلوب على الوجه المحبوب.
4- وروى الصدوق (نوّر اللّه مرقده) في المجالس في حديث طويل يتضمّن حبس الإمام الكاظم (عليه السّلام) عند الفضل بن الربيع مدّة، وأنه أمره بقتله مرة فلم يفعل، ثمّ حوّل (عليه السّلام) إلى حبس الفضل بن يحيي البرمكي، فحبس عنده أياما، فكان الفضل بن الربيع يبعث إليه في كلّ ليلة مائدة ومنع أن يدخل عليه من عند غيره، فكان لا يأكل ولا يفطر إلا على المائدة الّتي يولي بها، حتى مضى على تلك الحال ثلاثة أيام ولياليها فلمّا كانت الرابعة قدّمت إليه مائدة الفضل بن يحيي، فرفع يده إلى السماء، فقال: «يا ربّ، إنّك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي»، قال فأكل فمرض. وساق تتمة الحديث مما يدلّ على موته بسبب ذلك.
ومثله روي في (عيون أخبار الرضا عليه السّلام) فانظر إلى قوله عليه السّلام: «يا ربّ إنّك تعلم» انتهى.
وما فيه من الدلالة على أن أكله (عليه السّلام) مع علمه بالسمّ حين علم أن ذلك تمام الأجل المضروب وآخر العمر المكتوب، ليس بإعانته على نفسه، ولا بالقاء اليد إلى التهلكة المحرّم، وأنه لو أكل قبل ذلك لكان قد أعان على نفسه وألقي بيده إلى التهلكة، حيث إنه قبل الوقت المذكور غير مختار له في الأقضية السبحانيّة ولا مرضيّ له من الأقدار الربانيّة؛ وذلك لأن الرشيد (لعنه اللّه) قد دسّ إليه السمّ غير مرّة وهو (عليه السّلام) يدفعه عن نفسه كما يدلّ عليه حديث الكلبة الّتي للرّشيد وغيره.
5- وممّا يدل على زوال القتل بهم (عليهم السّلام) من أعدائهم واحتجابهم منه وعدم تأثيره فيهم، حيث كانوا قبل الأجل المضروب لهم، وغير مقضي ولا مرضي له سبحانه بالنسبة إليهم ما رواه في كتاب (ثاقب المناقب) من أن الدوانيقي (لعنه اللّه) أمر رجلا بقتل الصادق (عليه السّلام) وابنه إسماعيل – وكانا في حبسه – فأتي أبا عبد اللّه (عليه السّلام) ليلا وأخرجه وضربه بسيفه حتى قتله، ثم أخذ إسماعيل ليقتله فقاتله ساعة ثم قتله، ثم جاء إليه فقال: ما صنعت؟ فقال: قتلتهما وأرحتك منهما. فلما أصبح فإذا أبو عبد اللّه (عليه السّلام) وإسماعيل جالسان، فاستأذنا، فقال أبو الدوانيق للرجل: ألست زعمت أنك قتلتهما؟ فانظر فيه. فذهب فإذا بجزورين منحورين. الحديث.
6- وما رواه في الكتاب المذكور، ورواه أيضا السيّد الجليل ذو المناقب والمفاخر رضي الدين على بن طاووس قدّس سرّه في كتاب المهج وكتاب الأمان من أخطار الأسفار والأزمان من حديث الجواد مع المأمون ودخول المأمون وهو سكران على الجواد (عليه السّلام) حين شكت إليه ابنته زوجة الجواد (عليه السّلام) أنه أغارها وتزوّج عليها – وكان في حال سكره – فقام والسيف في يده حتى دخل على الإمام (عليه السّلام)، فما زال يضربه بسيفه حتى قطّعه، وذلك بمحضر من الزوجة المذكورة وياسر الخادم.
ثم إن المأمون بعد أن أصبح وأفاق من سكره أخبرته ابنته بما فعل ليلا بالإمام (عليه السّلام)، فاضطرب وأرسل ياسرا الخادم يكشف له الخبر، قال في الحديث: فما لبث ياسر أن عاد إليه، فقال: البشري يا أمير المؤمنين. فقال: ولك البشري، ما عندك؟ قال: دخلت عليه، فإذا هو جالس وعليه قميص وهو يستاك، فسلّمت عليه وقلت: يا بن رسول اللّه، أحبّ أن تهب لي قميصك هذا أصلّي فيه وأتبرّك به، وإنّما أردت أن أنظر إلى جسده هل به أثر جراحة وأثر السيف.
إلى أن قال: فقلعه ونظرت إلى جسده كأنه العاج مسّته صفرة وما به أثر.
ثم ساق الحديث إلى أن قال: قال (عليه السّلام): «يا ياسر، هكذا كان العهد [بيننا] وبينه، حتى يهجم علي بالسيف، اعلم أن لي ناصرا وحاجزا يحجز بيني وبينه» الحديث.
وفي جملة من الأخبار المرويّة في كتاب المهج وغيره أن أبا الدوانيق قد همّ غير مرّة بقتل الصادق (عليه السّلام)، وكذلك الرشيد بالكاظم (عليه السّلام)، فيدعون اللّه سبحانه في دفع ذلك عنهم ويحتجبون بالحجب المرويّة عنهم (عليهم السّلام) كما تضمّنه كتاب مهج الدعوات وغيره، فيظهر اللّه تعالى من عظيم قدرته لذينك الطاغوتين ما يرهبهما به، حتى وقع كل منهما مغشيّا عليه غير مرّة. والوجه فيه ما عرفت)).
المصدر: الدرة 18 من كتاب "الدرر النجفية" للمحدث الشيخ يوسف البحراني (قدس سره)