هل القُربَةُ كافيةٌ في جميعِ العباداتِ أم لا؟

🔴 هل القُربَةُ كافيةٌ في جميعِ العباداتِ أم لا؟

هذه المسالةُ من المسائلِ التي وُجِّهتْ إلى المحدّثِ الشيخ يوسف البحراني “قدس سره الشريف”‏ فأجابَ عليها واسترسلَ في بيانها ‏حيث قال:

⛔️ ‏الجوابُ وبه الثقةُ في كلّ باب:

إنّا لم نعثرْ على دليلٍ يدلّ على قصْدِ أمرٍ زائدٍ وراء قصدِ القربة والإخلاصِ في جميعِ العبادات، والناسُ في سَعةٍ ما لم يعلَموا.

وقد اعترفَ بذلك أيضا جملةٌ من أصحابنا (رضوان الله عليهم).

ومن أوجبَ زيادةً على ذلك لم يستند فيه إلى نصّ وبرهانٍ من السنة النبوية أو القرآن، وإنما علَّلهُ بوجوهٍ اعتبارية واختراعاتٍ عقلية لا تصلحُ أن تكونَ مؤسِّسَةً للإحكام الشرعية.

🔻 نعم لو كان الفعلُ المستقرُّ في ذمةِ المكلف مما له أنواعٌ يقعُ بحسبها، واجتمعتْ تلك الأنواعُ في الذمةِ فلابدَّ لإيقاع أحدها على الخصوصِ من قصدٍ زائدٍ على مجرد إيقاع الفعل قربة له سبحانه.

مثلا الصلاةُ لمّا كانت تقعُ على وجهِ الأداء تارةً وعلى وجهِ القضاء أخرى، فلو اشتغلتْ ذمةُ المكلف بظهرٍ أداءً وأخرى قضاءً وقلنا بالمواسعةِ في القضاءِ فإِنه يجبُ عليه قصدُ الأداءِ إن أراد إيقاعَ صاحبةِ الوقت، وإلا فيقصدُ القضاءَ إن أرادَ إيقاعَ الفائتة.

وبالجملة، فإنه متى كان الفعلُ المرادُ إيقاعهُ متعيناً في الواقع ذاتاً وصفةً كفى إيقاعهُ بقصد القربة، وإن لم يتعيّنْ في نظرِ المكلف.

🔻 ولا بأسَ بالإشارة هنا إلى تحقيقٍ حررناهُ في بعض فوائدنا يتعلقُ بأصلِ النية وبيانِ أنها من قبيلِ الأمور الفطريّةِ الجبليّةِ التي لا تحتاجُ إلى مزيدِ تكلّفٍ بالكليةِ وان كان ذلكَ خارجاً عن الجوابِ إلا أنه مما له مزيدُ بيانٍ يقعُ عند أولى الألبابِ في هذا الباب، ومما يستعانُ به على التخلصِ من شراكِ الوسواسِ الخنَّاس، والخروجِ من حيرةِ التَّيهِ في ذلك والإلتباس.

🔻 فأقولُ: إنا لم نقفْ في أصل النية في هذا المقام على ذكرٍ لها في أخبار أهل البيت “عليهم الصلاة والسلام” بل ولا في كلام أحد من قدماءِ علمائنا الأعلام فضلا عما يترتبُ عليها من الفروعِ والأحكام، وإنما أحدَثَ البحثَ في ذلك متأخرُو الأصحابِ وأطنبوا في ذلك أيَّ إطنَاب، والظاهرُ أن منشأَ البحث في أصلِ النيّة وما يتفرعُ عليها من تلك الأمور مأخوذٌ من «العامة» كما هو مصرحٌ به في كتبهم جرياً على طريقتهم في بناءِ الأحكامِ الشرعيةِ على مجرّدِ العللِ العقليةِ والأمورِ الإستحْسانيّة، فأخذَ ذلك منهم جماعةٌ من الأصحاب، وحذوا حذوَهم في ذلك البابِ غفلةً عما اقتضتهُ أدلةُ السنةِ والكتابِ من الإبهامِ لما أبهمَ اللهُ والسكوتِ عمّا عنه سكتَ الله.

قالوا: فالنيةُ شرعاً هي القصدُ المقارِنُ للفعل، فلو تقدمتْ عليه ولم تقارنهُ كما إذا نوى صبحاً أن يفعل الفعلَ عصراً مثلا سُمِّيَ ذلك عرفاً لا نية، فإذا استمرَ حتى قارنَ سُمِّيَ حينئذٍ نية.

ولهمْ “رضوان الله عليهم” في بيانِ المقارنةِ في نية الصلاةِ اختلافٌ زائد.

قال العلامةُ “أجزلَ اللهُ تعالى إكرامَهُ” في التذكرة: الواجبُ اقترانُ النيةِ بالتكبير بأن يأتي بكمالِ النية قبلَهُ ثم يبتدأُ بالتكبيرِ بلا فصلٍ وهذا تصحُّ صلاتهُ إجماعاً.

قال: ولو ابتدأَ بالنيةِ بالقلبِ حالَ ابتداءِ التكبيرِ باللسانِ ثم فرغَ منهما دفعةً فالوجهُ الصحة.

ونقلَ الشهيدُ عن بعضِ الأصحابِ أنه أوجبَ إيقاعَ النية بأسرها بين الألفِ والرَّآء. قال: وهو مع العسرِ مقتضٍ لحصولِ أوَّلِ التكبيرِ بلا نية.

ونقلَ السيدُ السندُ في المداركِ عن العلامةِ والشهيد أنهما أَوجبا استحضارَ النيةِ إلى انتهاءِ التكبير لأنّ الدخولَ في الصلاة إنما يتحققُ بتمامِ التكبير.

ورَدَّهُ: بلزومِ العسرِ وأن الأصلَ براءةُ الذمةِ من هذا التكليف، وأن الدخولَ في الصلاة يتحققُ بالشروع في التكبير لأنه جزءٌ من الصلاة بإجماعنا، فإذا قارنتْ النيةُ أولَهُ فقدْ قارنتْ أولَ الصلاة لأن جزءَ الجزءِ جزءٌ، ولا يُنافي ذلك توقفُ التحريمِ على انتهائه. انتهى.

🔻 وفي البالِ أني وقفتُ من مدةٍ على كلامٍ للعلامة “رضوانُ الله عليه” الظاهرُ أنه في أجوبة مسائل السيد مهنا بن سنان المدني في المقارنةِ، وأنه قال حكايةً عمَّا يفعلهُ: إني أتصورُ الصلاةَ من فاتحها إلى خاتمتها وأُحضرُها ببالي ثم أقصدُ إليها وأقارنُ النيةَ بها.

والكتابُ لا يحضرني الآن لأحكي صورةَ كلامهِ ولكن في البالِ أنّ حاصلَهُ ذلك.

🔻 وأقولُ: لا يخفى عليك بعد تأملِ معنى النية ومعرفة حقيقتها أن جملةَ هذه الأقوال بعيدةٌ عن جادّةِ الإعتدالِ فإنها مبنيةٌ على أن النيةَ عبارةٌ عن هذا الحديثِ النفسي والتصويرِ الفكري، وهو غايةُ جملةِ قولِ المصلي: أُصلّي فرضَ الظهرِ أداءً لوجوبهِ قربةً إلى اللهِ تعالى.

والمقارنةُ بها بأن يُحضرَ المكلفُ عند إرادةِ الدخولِ في الصلاة ذلك ببالهِ وينظرُ إليه بعينِ فكرهِ وخيالهِ، ثم يأتي بعد الفراغِ منه بلا فصلٍ بالتكبيرِ كما هو المجمعُ على صحتهِ عندهم أو يبسطُ ذلك على التفظِ التكبيرِ ويمدّهُ بامتدادهِ كما هو القولُ الآخرُ أو يجعلهُ بين الألفِ والراء، كما هو القولُ الثالث.

وكلُّ ذلك مَحْضُ تكَلّفٍ وشططٌ وغفلةٌ عن معنى النية أوقعَ في الغلطِ، فإنه لا يخفى على المتأملِ أنه ليستْ النيةُ بالنسبةِ إلى الصلاة إلا كغيرها من سائرِ أفعالِ المكلف في قيامهِ وقعودهِ وأكلهِ وشربهِ وغُدوّهِ ومجيئهِ ونكاحهِ وصومهِ ونحو ذلك، ولا ريبَ أن كل عاقلٍ غير غافلٍ لا يصدرُ عنه فعلٌ من هذه الأفعالِ إلا مع قصدٍ وإرادةٍ سابقةٍ عليه ناشئةٍ عن تصورِ ما يترتبُ على ذلك الفعلِ من الأغراضِ الباعثةِ والأسبابِ الحاملةِ على ذلك، بل هي أمرٌ طبيعيٌ وخلقٌ جبليٌ لو أرادَ الإنفكاكَ عنه لم يتيسرْ له الا بعد تحولِ النفسِ عن تلك الدواعي الموجبةِ والأسبابِ الحاملة، ولهذا قال بعضُ من عقلَ هذا المعنى من الأفاضل: «لو كُلِّفْنا العملَ بغير نيةٍ لكانَ تكليفاً بما لا يُطاق» ومع هذا لا نرى المكلفُ في شيءٍ من هذهِ الأفعالِ يحصلُ له عسرٌ في النيةِ ولا إشكال، ولا وسوسةٍ، ولا فكرٍ، ولا ملاحظةِ مقارنةٍ ولا غير ذلك مما اعتبروهُ في هذا المجال، فإذا شرعَ في الصلاةِ أو نحوها من العبادات اضْطربَ في أمرِها وحارَ في فكرِها وربما اعتراهُ في ذلك الحالِ الجنونُ مع كونهِ في غير ذلك الوقتِ على غايةٍ من الرزانةِ والسُكون.

وهل فُرِّقَ بين العبادةِ وغيرها من الأفعالِ إلا بقصدِ القربةِ فيها والإخلاصِ لذِي الجلال؟

وهذا لا يوجبُ تشويشاً في البالِ ولا اضطراباً في الفكرِ والخيال.

🔻 وإن أردتَ مزيدَ إيضاحٍ لما قلناهُ، وإفصاحٍ عن صحةِ ما ادَّعيناهُ:

فانظرْ إلى نفسكَ إذا كنتَ جالساً في مجلسكَ ودخلَ عليكَ رجلٌ عزيزٌ حقيقٌ بالقيامِ له والتواضعِ، ففي حال دخولهِ، قُمْتَ لهُ إجلالاً وإعظاماً كما هو الجاري بين جملةٍ من الأنام، فهلْ يجبُ عليكَ أن تتصورَ في بالكَ: أَقومُ تواضعاً لفلانٍ لاستحقاقهٍ ذلكَ قربة إلى الله؟ وإلا لكانَ قيامُكَ له من غير هذا التصوّر خالياً من النيةٍ، فلا يسمّى تواضعاً ولا يترتبُ عليه ثوابٌ ولا مدحٌ، أم يكفى مجردُ قيامِكَ خاليا هذا التصوّر، وأنه واقعٌ بنيّةٍ وقصدٍ على جهةِ الإجلالِ والإعظامِ الموجبِ للمدحِ والثواب.

ومن المقطوع به أنكَ لو تكلفتَ تخيُّلَ ذلك بجَنانِكَ وذكرتَهُ على لسانكَ لكنتَ سخريةً لكلِ سامعٍ، ومضحكةً في المَجامِع.

وهذا شأنُ النية في الصلاةِ أيضا، فإن المكلفَ إذا دخلَ وقتُ الظهر مثلا وهو عالمٌ بوجوبِ ذلك الفرضِ عليه سابقاً، وعالمٌ بكيفيتهِ وكميتهِ، وكانَ الغرضُ الحاملُ له عليه امتثالَ لأمره الله سبحانه مثلا أو طلبَ رضاهُ أو نحو ذلك، ثم قامَ من مكانهِ وسارعَ إلى الوضوءِ وتوجه إلى مسجده ووقف في مصلاه مستقبلا، وأذنَ وأقامَ، ثم قال: اللهُ اكبر، واستمرَّ في صلاته، فإن صلاتَهُ صحيحةٌ شرعيةٌ مشتملةٌ على النيةِ والقربة.

🔻 وبالجملةِ: فالنيةُ المعتبرةُ في أيِّ فعلٍ كان عبارةٌ عن انبعاثِ النفسِ وميلِها وتوَجُّهِها إلى ما فيه غرضُها ومطلَبُها عاجلاً أو آجلاً، وهذا الانبعاثُ والميلُ إذا لم يكنْ حاصلاً لها قبل فلا يمكنُها اختراعُهُ واكتسابهُ بمجردِ النطقِ باللسان، أو تصويرِ تلك المعاني في الجنانِ هيهاتَ هيهاتَ، بل هذا من جملةِ الهذيانِ.

مثلا: إذا غلبَ على قلبِ المدرسِ أو المصلي حُبُّ الشهرةِ وحُسنُ الصيتِ واستمالةُ القلوبِ إليه لكونهِ صاحب فضيلةٍ أو كونهِ ملازماً للعبادة، وكان ذلك هو الحاملُ على تدريسهِ أو عبادتهِ فإنه لا يتمكنُ من التدريسِ والصلاةِ بنية القربةِ أبدا وإن قالَ بلسانهِ أو تصوَّرَ بجَنانِهِ: أُصلي أو أُدرّس قربةً إلى الله.

وما دامَ لم يتحوَّلْ عن تلكَ الأسبابِ الأولة، ولم ينتقلْ عن تلك الدواعي السابقةِ إلى غيرها مما يقتضي الإخلاصَ له تعالى، فلا يتمكنُ من نية القربةِ بالكليّة، وحينئذ فإذا كانتْ النيةُ إنما هي عبارةٌ عن هذا القصدِ البسيطِ الذي لا تركِيبَ فيه بوجهٍ ولا يمكنُ مفارقتهُ لصاحبهِ بعد تصورِ تلك الأسبابِ الحاملةِ الموجبةِ للفعلِ إلا بعد الدخولِ في الفعلِ فكيفَ يتمُّ ما ذكروهُ من معاني المقارنةِ المقتضية للتركيبِ وحصولِ الابتداءِ فيه والانتهاء، وأنها تُحصرُ بين حاصرَين من الهمزةِ والراءِ إلى غير ذلك من التخريجاتِ العاريةِ عن الدليلِ، والخارجةِ عن نهجِ السبيل.

🖌 المصدر:

المسألة الثانية من كتاب: أجوبة المسائل البهبهانية للمحدّث الشيخ يوسف البحراني “قدس سره الشريف”.

وكتاب الحدائق الناضرة في بحث نية الوضوء، وغيرهما من المصادر.

🟣 الخلاصةُ -من خلالِ الرجوعِ إلى مختلفِ الكتابات التي كتبها الشيخُ “قدس سره” في هذهِ المسألةِ- ‏هي:

1- النيةُ أمرٌ بَسِيطٌ لا تَعقِيدَ فيه، وهي قَصْدُ الفعلِ مع التَقرُّبِ بهِ إلى الله تعالى.

2- لا يجبُ في نيّةِ كلِّ العباداتِ التلفظُ باللسانِ.

3- لا يجبُ في النيةِ التصويرُ النَّفسِي أو التخيّلُ القلبي للمعنى.

4- لا يجبُ في النيةِ قَصْدُ الوجهِ من الوجوبِ أو الإستحبابِ.

5- لا يجبُ في نيةِ الوضوءِ أو الغسلِ قَصْدُ استباحةِ الصلاةِ أو غيرِها مما يجبُ فيه الطهارة.

6- لا يجبُ في النيةِ قَصْدُ الأداءِ أو القضاءِ حتى لو اشتغلتِ الذِّمةُ بواجبين أحدهما أداءٌ والآخرُ قضاءٌ لأن الشيخَ البحراني “قدس سره” يتَبنَّى القولَ بالمضايقةِ المحْضَةِ في القضاءِ فيجبُ تقديمُ القضاءِ وبذلكَ يَتعَيَّنُ واقعا.

7- من شرائطِ صحةِ العبادةِ استدامةُ النيةِ حكماً إلى الفراغِ بأنْ لا يأتي بنيةٍ أخرى تنافيها كنيةِ القطعِ مثلا.

🖌 الشيخ جعفر الشارقي

تواصل معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *