استحباب التحنّك وبيان كيفيته

⛔ مسألة شرعية:
تم توجيهها إلى المحدث الشيخ يوسف البحراني "قدس سره الشريف":
🔵 السؤال:
‏مسألة عن التحنّك وما كيفيّته، فقد اختلفنا في الكيفية:
فبعضنا يقول: إنّه إسدال طرف العمامة على الصدر، وبعضنا يقول: التحنّك دوران جزء من العمامة تحت الحنك وردّه إلى العمامة، وبعضنا يقول: وضع جزء من العمامة تحت الحنك لما ورد أنّه يكره الصلاة في عمامة لا حنك لها، فكيف يكون متحنّكاً بوضع طرف العمامة على صدره ولا يعد عند من يراه انّه متحنّك، بل كيف يكون متحنّكاً مع بقاء العمامة ثلاثة أيّام أو أكثر خصوصاً عمائم البيض الميازر الهندية ربّما تبقى شهراً لا تفلّ فكيف يكون متحنّكاً وعمامته جمّاً مقطوعة وورد في الحديث: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن الاقتعاط وأمر بالتلحي.
وذكر صاحب القاموس أن التلحي: هو وضع العمامة تحت اللحيين، واحتج المنازع في هذه المسألة في كيفية عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ لها رغزتان واحدة يسدلها على صدره وواحدة بين كتفيه، وأنّه لم يترك سنّته (صلى الله عليه وآله) والأئمّة كذلك، فلذلك التجأوا إلى هذا التعليل العليل فأجبنا فإنّ جوابك عليه التعويل).
🛑 الجواب: الشيخ يوسف البحراني:
(إنّ هذه المسألة مما استقصينا فيها الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام في كتابنا الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة في مسألة استحباب التحنّك في الصلاة، ولنا فيه بحث مع شيخنا المجلسيّ (قدس سره) في كتاب البحار سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
ونحن هنا نلخّص ما ذكرناه في الكتاب المذكور على وجه يتّضح به المقام وتزول عنه غشاوة الإبهام فنقول:
📌 إعلم أيّدك الله تعالى بتأييده أنّ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهة الصلاة في عمامة لا حنك لها.
وقال الصدوق (قدس سره) في كتابه: وسمعت مشايخنا (رضوان الله عليهم) يقولون لا تجوز الصلاة في الطابقية، ولا يجوز للمقيم أن يصلّي إلّا وهو متحنّك انتهى.
وجملة من متأخّري متأخّري الأصحاب كالسيّد في المدارك وشيخنا البهائي وغيرهما صرّحوا بأنّ المستفاد من الأخبار كراهة ترك التحنّك في حال الصلاة وغيرها ولا خصوصية للصلاة بذلك، وإنّما يكون دخولها من حيث العموم.
📌 أقول: والذي وقفت عليه في الأخبار المتعلّقة بالتحنّك منه ما ورد في التعمّم مثل حسنة بن أبي عمير عمّن ذكره
عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من تعمّم ولم يتحنّك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه.
ونحوها رواية عيسى بن أبي حمزة، ومن هاتين الروايتين استفيد العموم للصلاة وغيرها كما تقدّم نقله عن الأفاضل المذكورين.
ومنه ما ورد في الخروج للسفر كما في موثّقة عمّار.
ومنه السعي في الحاجة كما رواه الصدوق مرسلًا.
📌 إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ ظاهر الخبرين الأوّلين هو استحباب التحنّك مطلقاً كما ذكرناه، وإليه ذهب من قدّمنا ذكره.
ومقتضى ذلك أنّ السنّة في العمامة هو التحنّك بها دائماً.
والتحنّك لغة عبارة عن إدارة طرف العمامة تحت الحنك كما سنقف عليه إن شاء الله تعالى، مع أنّ المستفاد من جملة من الأخبار أنّ السنّة فيها إنّما هو الإسدال كما رواه الكليني في الصحيح عن الرضا (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ (مُسَوِّمِينَ) قال: العمائم اعتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسدلها بين يديه ومن خلفه واعتمّ جبرئيل فسدلها بين يديه ومن خلفه.
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم بدر.
وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: عمّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً بيده فسدلها بين يديه وقصرها من خلفه قدر أربع أصابع، ثمّ قال: أدبر فأدبر، ثمّ قال: اقبل فأقبل، ثمّ قال: هكذا تيجان الملائكة.
وفي حديث خروج الرضا (عليه السلام) لصلاة العيد بأمر المأمون قال ياسر ناقل الحديث: واعتمّ بعمامة بيضاء من قطن ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه.
ونحوها أخبار أُخر أيضاً.
ومقتضى هذه الأخبار أنّ السنّة في العمامة دائماً إنّما هو الإسدال كما تضمّنته هذه الأخبار، وهو ظاهر المنافاة لظاهر الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ السنّة فيها إنّما هو التحنّك.
وممّا ذكرنا علم أنّ التحنّك والإسدال أمران متغايران كما سيظهر لك في المقام، وأنّ الأخبار قد اختلفت في أنّ السنّة في التعمّم هل هي التحنّك كما هو المشهور وعليه دلَّ ظاهر الخبرين المتقدّمين أو الإسدال كما دلّت عليه هذه الأخبار.
وشيخنا المجلسي (عطّر الله مرقده) في كتاب البحار حاول في الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل الإسدال على التحنّك فجعل الإسدال تحنّكاً وزعم دلالة كلام جملة من علماء اللغة على ما ذكره، وقد نقلنا كلامه في الكتاب المشار إليه وبيّنا ما فيه من السهو الظاهر الذي لا يخفى على الخبير الماهر، فإنّ التحنّك لغةً وعرفاً كما صرّح به أصحابنا (رضوان الله عليهم) إنّما هو إدارة جزء من العمامة تحت الحنك من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر، والإسدال إنّما هو عبارة عن إرسال طرف العمامة على الصدر أو على القفا من خلفه، ويدلّك على ذلك بأوضح دلالة كلام أهل اللغة.
قال الجوهري: التحنّك التلحي و هو أن تدير العمامة من تحت الحنك، وقال: الاقتعاط شدّ العمامة على الرأس من غير إدارك تحت الحنك، وفي الحديث: نهى عن الاقتعاط وأمر بالتلحي، وقال: التلحي تطويق العمامة تحت الحنك، ثمّ ذكر الخبر، وقال في القاموس: اقتعط: تعمّم ولم يدر العمامة تحت الحنك، وقال: تحنّك أدار العمامة تحت حنكه.
وعلى هذا النهج كلمات جملة من علماء اللغة.
ولا يخفى أنّها كلّها ظاهرة الدلالة في الانطباق على المعنى المشهور وإن تفاوتت في البيان والظهور ولا سيّما عبارة الجوهري وقوله: التلحّي تطويق العمامة تحت الحنك أي جعلها كالطوق وهو المراد من الإدارة، وأين هذا من الإسدال الذي هو إرسال طرف العمامة على الصدر.
ويزيدك إيضاحاً لما ذكرناه أنّ الحنك على ما ذكره أهل اللغة إنّما هو ما انحدر عن الذقن وما حاذاه من داخل الفم.
قال في كتاب مجمع البحرين: والحنك ما تحت الذقن من الإنسان وغيره أو أعلى داخل الفم والأسفل في طرف مقدّم اللحيين من أسفلهما.
أقول: وعلى المعنى الثاني ورد استحباب تحنيك المولود بالحلو وماء الفرات والتربة أي جعل ذلك في حنكه وهو أعلى داخل الفم، ومنه يظهر انّ التحنيك وهو الإمرار بالعمامة على الحنك الذي هو تحت الذقن غير الإسدال الذي هو عبارة عن رمي طرف العمامة وإرساله من اليمين أو اليسار بحيث يمرّ بأعلى إحدى اللحيين لا بالأسفل منهما.
وبالجملة: فالأمر في ذلك أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان على ما ذكرناه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد ظهر ممّا شرحناه المنافاة بين أخبار التحنيك الدالّة بظاهرها على أنّ السنّة هو التحنّك بالعمامة دائماً وأخبار الإسدال الدالّة على أنّ السنّة في العمامة هو الإسدال دائماً.
📌 والذي يقرب بالبال في الجمع بين هذه الأخبار هو أن يقال:
لا ريب أنّ أخبار التحنّك بعضها دلّ على استحبابه للسفر، وبعضها دلَّ على استحبابه للسعي في قضاء الحاجة، وبعضها بمجرّد التعمّم.
ولا يخفى أنّ المنافي لأخبار الإسدال إنّما هي أخبار القسم الثالث حيث إنّها كما فهمه الأصحاب تدلّ على دوام ذلك واستمراره ما دام معتمّاً مع أنّ أخبار الإسدال دلّت على أنّ السنّة إنّما هي الإسدال دائماً ما دام معتمّاً، وحينئذ فيمكن القول ببقاء أخبار الفردين الأولين على ظاهرهما من غير تأويل إذ لا منافي لها إذ موردها خاص بهذين الفردين و يجب تخصيص أخبار الإسدال بها بمعنى أنّه يستحبّ الإسدال في هاتين الحالتين.
وأمّا أخبار القسم الثالث فينبغي حملها على أنّ المراد التحنّك وقت التعمّم بمعنى أنّه بعد تمام التعمّم يدير طرف العمامة الباقي تحت حنكه ويتطوّق به لا دائماً كما فهمه الأصحاب، بل في هذا الوقت خاصّة، ويشير إلى ذلك ظاهر الأخبار المذكورة فإنّ ظاهر قوله (عليه السلام): من تعمّم ولم يتحنّك، من حيث كونه حالًّا من الفاعل في قوله: تعمم والحال قيد في فاعلها يعطي أنّ التحنّك وقت التعمّم، وأمّا استمرار ذلك فيحتاج إلى دليل وليس فليس، وحينئذ فتبقى أخبار الإسدال على ظاهرها فيكون المستحبّ دائماً إنّما هو الإسدال، والتحنّك مخصوص بهذه الصور الثلاث المذكورة أعني التحنّك وقت التعمّم خاصة مع الفردين الأخيرين.
ولا يحضرني الآن وجه جمع بينها سوى ما ذكرته. والله العالم).
المصدر: مخطوط الأنوار الحيرية
للمحدث الشيخ يوسف البحراني "قدس سره الشريف"

تواصل معنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *